حسّونة المصباحي يكتب حبّ جان جينيه لفلسطين | حوار

حسّونة المصباحي

 

للكاتب والأديب والمترجم التونسيّ حسّونة المصباحي مكانة مهمّة في الأدب العربيّ اليوم؛ فالرجل لم يتوقّف منذ سبعينات القرن العشرين عن التأليف في أجناس أدبيّة مختلفة، من قصّة ورواية ونقد وترجمة وأدب اليوميّات، عاملًا على إغناء الأدب العربيّ بكتابات مغايرة وجريئة في طرح موضوعات وقضايا عن الاجتماع العربيّ، كتابات يغلب عليها نقده الساخر المضمَر في ثنايا نصوصه.

تبقى القرية، بأحلامها وبراءتها، المعين الّذي لا ينضب لدى المصباحي، هو الّذي عاش تائهًا في مسارب العالم، الخفيّة منه والمعلنة، بعيدًا عن قريته الّتي يحبّ. شغفه في أن يظلّ تونسيًّا جعل كتاباته الأدبيّة كأنّها مرآة تعكس ما يجول في الجسد التونسيّ، من ألم وكرب وخيبات؛ إذ يعمل دومًا على تخييلها وتقريبها في حلّة نصّ قصصيّ أو روائيّ. هذا الأمر انتبه إليه مبكّرًا الكاتب المصريّ يوسف إدريس، الّذي سيخصّص مقالة ماتعة عن كتابات المصباحي، في وقت لم يكن قد بلغ مراتب متقدّمة في الأدب، ويواصل حفره الرصين في مخيّلة الناس وقصصهم وحكاياتهم.

في كتابه الأخير «جان جينيه والفلسطينيّون» (دار بصمة، 2021)، يتناول المصباحي علاقة جينيه بالفلسطينيّين وقضيّتهم، ولمناسبة صدور هذا الكتاب، كان لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة هذه المقابلة الخاصّة معه.

 

فُسْحَة: من المعروف أنّ الكاتب التونسيّ حسّونة المصباحي، يكتب أجناسًا أدبيّة متنوّعة، مثل القصّة والرواية واليوميّات، هذا إضافة إلى تقديمه عددًا من الترجمات لكبار الشعراء. كيف تستطيع إيجاد هذا التوازن على مستوى الكتابة والحياة في ذاتك أوّلًا، قبل الفعل؟

المصباحي: ليس في استطاعتي أن أجد جوابًا واضحًا ودقيقًا عن سؤالك، لكنّي سأحاول رغم ذلك أن أحدّد بعض النقاط المضيئة لجوابي عنه. في البداية، كتبت القصّة القصيرة، وأوّل مجموعة كانت بعنوان «حكاية جنون ابنة عمّي هنيّة»، وجميع قصص هذه المجموعة مستوحًى من حياة الناس في قريتي، الّتي كانت في زمن طفولتي شبه معزولة عن العالم؛ فلا كهرباء ولا مواصلات، ولا ماء صالحًا للشرب. وجلّ أهل قريتي أُمّيّ نساءً ورجالًا، والمتعلّم منهم يحفظ بعض السور من القرآن لأداء صلاته. وأهالي القرى المجاورة كانوا على نفس الصورة، وأتذكّر أنّهم كانوا يُجْبَرون على قطع مسافات طويلة، بحثًا عمّن في استطاعته أن يقرأ لهم رسائل تأتيهم من أبنائهم البعيدين، أو من «الحكومة». وتلك المجموعة اعتبرها النقّاد مجدّدة في الأدب التونسيّ؛ إذ إنّني كنت قد أخرجت القصّة من المدينة إلى الريف، مبتكرًا عوالم غير مألوفة حتّى ذلك الحين. والمجموعة الثانية الّتي كانت بعنوان «السلحفاة»، جلّ قصصها تقريبًا يدور في الريف الّذي فيه وُلِدْتُ ونشأت. لكن بعد أن استقرّ بي المقام في ميونيخ، جنوب ألمانيا، أواسط الثمانينات من القرن الماضي، بدأ الريف يبتعد شيئًا فشيئًا، لأنشغل بكتابة قصص مستوحاة من حياتي في الغربة المختارة. وبعد أن واظبت على كتابة القصّة على مدى يزيد على العقد، شعرت بأنّ القصّة لن تكون قادرة على استيعاب الموضوع الّذي كان يعتمل في ذهني آنذاك، والّذي يتمحور أساسًا عن خيبات أبناء جيلي، جيل السبعينات، وعن إخفاقاته وانكساراته وأحلامه المهشّمة، هو الّذي كان مفتونًا بالاشتراكيّة في صيغتها الماويّة (نسبة إلى الزعيم الصينيّ) تحديدًا، ومناصرًا للثورات في العالم، ولا سيّما الثورة الفلسطينيّة، والفيتناميّة، والكوبيّة مجسّدة في شخصيّة تشي غيفارا. وبعد تلك الرواية الّتي لاقت إعجاب القرّاء والنقّاد، انقطعت عن كتابة القصّة بعد أن بلغت الأربعينات، وإلى الآن أصدرت إحدى عشرة رواية، ولا أرى في الأفق القريب أو البعيد ما يمكن أن يعيدني إلى القصّة القصيرة. أمّا اليوميّات فأنا شرعت في كتابتها بعد أن قرأت يوميّات كبار الكتّاب الغربيّين، مثل الفرنسيّ أندريه جيد، والبولونيّ فيتولد غومبروفيتش الّذي عاش الشطر الأكبر من حياته في الاغتراب، والبريطانيّة فيرجينيا وولف، والأميركيّة أنائيس نين، والسويسريّ أميال. وفي أدبنا التونسيّ، نحن لا نجد هذا اللون من الكتابة - أي اليوميّات - إلّا عند الشاعر الكبير أبي القاسم الشابي، إلّا أنّ يوميّاته لم تتجاوز شهرًا واحدًا، ورغم ذلك احتوت على معلومات رائعة عن حياته، وعن مشاغله، وعن أفكاره، لتكون وثيقة بالغة الأهمّيّة. وقد احتوت اليوميّات الأولى الّتي كتبتها بعنوان «يوميّات ميونيخ» على تفاصيل مهمّة، عن حياتي في هذه المدينة، في السنتين الأخيرتين اللتين سبقتا عودتي النهائيّة إلى بلادي، وذلك عام 2004. وبعدها أصدرت يوميّات بعنوان «العودة إلى ميونيخ»، وهي تؤرّخ لشهرين أمضيتهما في ضواحي ميونيخ، بفضل منحة تلقّيتها من مؤسّسة أدبيّة ألمانيّة. وحديثًا أصدرت يوميّات، واظبت على كتابتها على مدى الأسابيع الأولى من العزلة الّتي فرضتها جائحة كورونا. وأمّا كتابة المقالات فأنا أفعل ذلك بحكم عملي صحافيًّا متخصّصًا، وأنا أسعى دائمًا إلى أن تكون مقالاتي في مستوًى يسمح بالصدور في كتاب. ثمّ إنّني كتبت في مجال السيرة مثلما فعلت ذلك مع القدّيس أغسطين، ومع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ولي كتاب في أدب الرحلة بعنوان «كتاب التيه». أمّا الترجمة فأمارسها كتمرين للمتعة والاستفادة من التواصل بين اللغة العربيّة والفرنسيّة، وترجمتي لقصائد الشعراء الفرنسيّين الكبار تعود إلى أنّ الترجمة تساعدني على اكتشاف عوالمهم، لأنّ القراءة وحدها ليست كافية.

وكما أنت ترى، أنا أتنقّل بين أنواع وألوان من الكتابة بيُسر؛ لأنّي أعتقد أنّني لست من صنف الكتّاب الّذين يلتزمون بنوع واحد من الكتابة، فلا يتخلّون عنها أبدًا.

 

 

فُسْحَة: عشت حياتك متنقّلًا بين مدن عربيّة وأوروبّيّة كثيرة، حتّى بات اسمك مرادفًا للسفر والمنفى والرحيل. ما الدور الّذي أدّته هذه الأسفار المتعدّدة، في بناء شخصيّة الكاتب والعاشق للجمال داخل حسّونة المصباحي؟

المصباحي: في أوّل الثمانينات من القرن الماضي، تمعّن شيخ جليل من واحة توزر في الجنوب الغربيّ التونسيّ طويلًا في كفّي، ثمّ قال لي: "سوف تسافر كثيرًا عبر العالم"، وقد صدق حدسه، إذ عشت بعد ذلك سنوات من السفر الدائم بين المدن والبلدان. أعتقد أنّ السفر فتح عينيّ على ثقافات مختلفة، ومتنوّعة، وغذّى تجربتي الأدبيّة والروحيّة، وسمح لي الانفصال نهائيًّا عن المجالات الضيّقة، وعن ثقافة التسطّح والانغلاق؛ لأجد نفسي في عالم أكثر رحابة واتّساعًا وثراء على جميع المستويات.

 

فُسْحَة: ترك جان جينيه شهادة حقيقةٍ في كتابه «أربع ساعات في شاتيلا» (ترجمة محمّد برادة)، وهو عمل توثيقيّ مهمّ، يُعَدّ بمنزلة شهادة عن جرح لمّا يندمل بعد. أوّلًا: كيف تنظر باعتبارك أحد العرب المهتمّين بجان جينيه إلى علاقته بفلسطين، خاصّة وقد صدر لك كتاب مهمّ عن هذه العلاقة، الّتي قادت جينيه منذ بداياته إلى التضامن مع فلسطين، والانغماس في يوميّاتها وقضاياها؟

المصباحي: لقد أَحبّ جان جينيه العالم العربيّ، عندما كان جنديًّا في القوّات الفرنسيّة الّتي كان في سوريا خلال سنوات الاحتلال. وفي دمشق، ارتبط بعلاقة صداقة مع شبّان جعلوه يكتشف جوانب إنسانيّة كان المستعمر الفرنسيّ يُمْعِنُ في تجاهلها وإخفائها، ساعيًا دائمًا إلى التعامل مع العرب كأنّهم أمّة متوحّشة ليست جديرة بالتقدير والاحترام؛ لذا تتوجّب معاملة شعوبهم كقطعان سائبة تحتاج إلى الترويض، وتعلُّم مبادئ التمدّن والتحضّر. ومنذ ذلك الحين انجذب جان جينيه إلى العرب؛ لأنّه كان يشعر هو أيضًا بأنّ بلاده تعامله بقسوة، وتجبره على أن يَسْرِق؛ لكي يعيش مهمّشًا ومشرّدًا ومقهورًا. ولا يخصّ هذا الانجذاب العرب وحدهم، بل يتعدّى ذلك ليشمل كلّ الشعوب والمجموعات المضطهدة والمظلومة. نحن نعلم أنّ جان جينيه دافع عن «الفهود السود» في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وعن مجموعة «بادر ماينهوف» الألمانيّة ذات التوجّه اليساريّ المتطرّف، وكتب نصًّا شهيرًا فيه يُبرّر عنف هذه المجموعة الّتي ارتكبت العديد من العمليّات الإرهابيّة، منها قتل رئيس الأعراف الألمان في فرانكفورت عام 1978. ثمّ إنّ هذه المجموعة تعاطفت مع القضيّة الفلسطينيّة عبر «الجبهة الشعبيّة» الّتي كان الدكتور جورج حبش يتزعّمها. ولكن تعاطف جينيه مع الفلسطينيّين ودفاعه المستميت عن حقوقهم، كان أشدّ قوّة من تعاطفه مع تنظيمات ثوريّة أخرى. وهذا ما نلمسه في شهادته الرائعة والمؤثّرة عن «مجزرة صبرا وشاتيلا»، وفي روايته أيضًا الّتي نُشِرَت بعد وفاته «الأسير العاشق». لكن عليّ أن أوضّح أنّ تعاطف جان جينيه مع الفلسطينيّين، ومع غيرهم، كان إنسانيًّا وروحيًّا أكثر منه سياسيًّا؛ إذ حافظ حتّى النهاية على استقلاليّته الفكريّة والسياسيّة.

 

فُسْحَة: صدر لك قبل أشهر «جان جينيه والفلسطينيّون». بدايةً، كيف جاء التفكير في جان جينيه وفلسطين أمام ما يشهده الواقع العربيّ من تطبيع مع الكيان الصهيونيّ أو تصدّعات على المستوى السياسيّ المتمثّل في الديكتاتوريّات السلطيّة القمعيّة؟

المصباحي: عليّ أن أصارحك، وأقول لك إنّي لا أحبّ كلمة «تطبيع»، ولا عبارة «الكيان الصهيونيّ»؛ لأنّها كلمات نحتتها الأيديولوجيّات اليساريّة المتطرّفة، معتقدة أنّها قد تكون أدوات فعّالة في مواجهة إسرائيل. وأنا تخلّصت من مثل هذه الكلمات منذ زمن طويل، وتحديدًا منذ أن قرأت كتاب المفكّر السوريّ د. جلال العظم «نقد فكر المقاومة الفلسطينيّة» الّذي صدر بعد هزيمة حرب 1967، وكتاب المفكّر السعوديّ عبد الله القصيمي «العرب ظاهرة صوتيّة»؛ فبفضل هذين الكتابين اكتشفت أنّ العرب يعتقدون أنّ اللغة العربيّة، في فخامتها البلاغيّة، قد تكون كافية في المواجهة مع أعدائهم. ولعلّي أردت من خلال كتابي عن جان جينيه أن أُبْرِزَ الجانبين الروحيّ والإنسانيّ في التعاطف مع الفلسطينيّين ومع قضيّتهم، بعيدًا عن المزايدات الأيديولوجيّة الّتي غالبًا ما تكون ضارّة وكاذبة ومفتعلة.

 

فُسْحَة: سيرة جان جينيه تظلّ دومًا مفتوحة على الجرح والمأساة، لكن ما الدوافع الذاتيّة والفكريّة والجماليّة، الّتي تدفع أديبًا ومترجمًا تونسيًّا مثلك، إلى أن يفكّر في الاشتغال على كتاب حول الفرنسيّ جان جينيه؟

المصباحي: عليّ قبل كلّ شيء أن أقول لك إنّي أعتبر جان جينيه كاتبًا كبيرًا، بحسّ شاعريّ وإنسانيّ نادر، بقطع النظر عن تعاطفه مع الفلسطينيّين، أو مع غيرهم. وقد قرأت جلّ ما كتبه من روايات، ومن مسرحيّات، ومن أشعار، ومن نصوص، ليزداد إعجابي به، وتعلّقي بشخصيّته الحرّة المنفلتة من كلّ ما يمكن أن يحسبها في أقفاص فكريّة، أو أدبيّة، أو سياسيّة، أو غيرها. وأنا دائمًا أميل إلى الشخصيّات الأدبيّة الّتي تشترك معه في مثل هذه المواصفات. وكتابي عن علاقته بالفلسطينيّين يدخل في هذا الإطار؛ إطار الكاتب الحرّ، الّذي يظلّ محافظًا على شاعريّته المتدفّقة وعلى نزعته الإنسانيّة، في أيّ مجال يختار أن يكتب فيه. ثمّ إنّ نصوص جان جينيه، الّتي اخترت أن تكون في كتابي عنه، تُبْطِل تلك الرنّة العالية والمصطنعة الّتي تطغى على الكتابات المتأثّرة بما يسمّى «الواقعيّة الاشتراكيّة»...

 

فُسْحَة: ما خصوصيّة المنهج الّذي قاربت به شخصيّة جان جينيه، خاصّة أنّ كتاباته يطغى دومًا عليها الطابع الأدبيّ، بحيث أنّ أعماله الأدبيّة، لم تُقابَل بترحيب كبير مثل كتّاب فرنسيّين آخرين؛ لأنّ العرب ظلّوا كأنّهم ينظرون إلى جينيه نظرة الفرنسيّ المتضامن معهم ومع قضاياهم، أمام غياب هائل لكتابات عربيّة تقرأ مشروع جينيه الأدبيّ، وتفحصه بمفاهيم النقد المعرفيّ والرؤية الجماليّة، الّتي تقترحها كتاباته المذهلة؟

المصباحي: نعم، هي كتابات مذهلة، ولكن أغلبها لم يُنْقَل بشكل جيّد إلى اللغة العربيّة. وربّما لهذا السبب لا يزال جينيه مجهولًا أدبيًّا عند العرب، ومشهورًا عندهم كاتبًا غربيًّا دافع عن القضيّة الفلسطينيّة، وهذا ما يحزّ في نفسي، وأظنّ أنّه سيحزّ في نفسه هو أيضًا. ومثل هذه النظرة الجاحدة لمكانته الحقيقيّة كاتبًا، قد تعود إلى أنّ العرب قد يكونون عازفين عن ترجمة آثاره إلى لغتهم؛ لأنّ هذه الآثار سوف تُثير حفيظة أوساط دينيّة معيّنة، محافظة ورجعيّة، باعتبارها متحدّية لنواميسهم الأخلاقيّة، ولفقههم الأصفر الّذي يكفّر ويرفض كلّ مَنْ يتحدّاه، ويذهب بعيدًا في كشف المستور والمحرّم والمكبوت...

 

فُسْحَة: الملاحظ في سيرتك على مستوى الكتابة، أنّها لم تبقَ رهينة الرسميّات الثقافيّة، وإنّما تحفر بقوّة بغية القبض على المنسيّ والمكبوت داخل التقاليد الرسميّة العربيّة، من خلال تسليط الضوء على شخصيّات مهاجرة ومنكوبة سياسيًّا واجتماعيًّا، لكنّها تحظى بمكانة كبيرة في الأدب العالميّ. ما مدى حدود التقاطع والتلاقي بين جان جينيه والإسبانيّ خوان غويتيسولو الثائر على التقاليد الرسميّة، الناقد الثاقب للاستشراق الإسبانيّ ونظرته التحقيريّة إلى الشرق ومتخيّله؟

المصباحي: في نظري، كلّ كتابة تظلّ على السطح، وتكره الغوص في أعماق الواقع، ولو كان هذا الواقع مرعبًا ومأزومًا وقبيحًا ومتعفّنًا، هي كتابة كاذبة ومُفْتَعَلَة. وأنا منذ بداية مسيرتي اخترت أن أكون مناصرًا لكلّ الكتّاب والشعراء والمفكّرين، الّذين وصفهم الراحل الكبير عبدالله القصيمي بـ «الخوارج»، وهم المنشقّون عن الثقافات الرسميّة، وعن الأنماط السائدة، وعن البلاغة الجوفاء، وعن الحذلقة المملّة  والثقيلة، وعن كلّ ما يتميّز به أدباء، وشعراء، ومفكّرو الموائد والصالونات الباذخة، والّذين لا يتردّدون في بيع الكلمات، وتدبيج الخطب لكسب رضا سلطة، أو نظام، أو حزب... وكما سبق أن ذكرت، كان جينيه، وخوان غويتيسولو من صنف الكتّاب المتمرّدين على كلّ أصناف التدجين والترويض، لذا؛ ستظلّ آثارهم لامعة ومنيرة في ظلمات كلّ الأزمنة، وكلّ العصور...

 

فُسْحَة: ماذا عن البُعْدِ السِّيَرِيّ لحياة جان جينيه داخل كتابك؟ كيف تعاملت معه؟ وما النصوص على مستوى الأرشيف، الّتي تفاعلت معها على مستوى المعلومة والتأريخ لحياته؟

المصباحي: لقد سبق أن ذكرت أنّي قرأت جلّ أعمال جينيه، وقد وجدت في كتاب صدر ضمن سلسلة «كتب الجيب» نصوصًا عن الفلسطينيّين، وعن «الفهود السود»، وعن «بادر ماينوف»، وحوارات أُجْرِيَت مع جينيه في فترات مختلفة من حياته، فاخترت أن أنقل إلى العربيّة ما هو متّصل بالفلسطينيّين وقضيّتهم...

 

فُسْحَة: في نظرك، ماذا تبقّى من صورة جان جينيه اليوم؟ أو بعبارة أخرى، هل تعتقد أنّ الأنظمة العربيّة الآن، تحفل بنضالات جان جينيه وغيره، في رسم صورة لمجتمع ديمقراطيّ أكثر تشبّثًا بحقوق الإنسان وحرّيّته في تقرير مصيره؟

المصباحي: سيظلّ جان جينيه حيًّا في الذاكرة الأدبيّة الإنسانيّة، بآثاره الإبداعيّة في مجال الرواية المستمدّة من تجربته الذاتيّة، وأيضًا من خلال مواقفه الإنسانيّة النبيلة، المعادية لكلّ شكل من أشكال التسلّط والظلم والاستعباد والتهميش، والتحريم الأخلاقيّ والدينيّ.

 

فُسْحَة: كان الكاتب المغربيّ، محمّد شكري، أكثر الكتّاب المغاربة اعتناءً بذاكرة جينيه، ومروره على بلاد المغرب، وأمنيته في أن يُدفن في مدينة العرائش المغربيّة. كيف تنظر إلى هذه اليوميّات، بالمقارنة بكتابك الجديد عن جان جينيه؟

المصباحي: صديقي الراحل محمّد شكري تَعرّف على جان جينيه، أيّام كان هذا الأخير يتردّد على طنجة، وعلى المغرب عمومًا. وأظنّ أنّ صاحب «مذكّرات لصّ» أَحبّ محمّد شكري، ورأى فيه شيئًا من نفسه المعذّبة والمقهورة. ومن أجمل ما يتذكّر محمّد شكري من تلك العلاقة، أنّ جان جينيه ترك له قبل أسبوع من رحيله عن الدنيا، كأس نبيذ وجريدة «لوفغارو»... ويوميّات محمّد شكري شاهدة بديعة ومتميّزة عن جان جينيه. أمّا أنا فلم أتعرّف عليه ومواقفه الأدبيّة والفكريّة والسياسيّة، إلّا من خلال آثاره والحوارات الّتي أُجْرِيَت معه.

 

 

أشرف الحساني

 

 

 

ناقد فنّيّ مغربيّ، يكتب المقالة الثقافيّة في عدد من المنابر العربيّة. صدر له كتاب بعنوان "سرديّة التاريخ: كتابات في اللّغة والصورة والحداثة".